[size=21]عندما نحط الرحال عند أعمال فنان متعدد المواهب يعرف كيف يطوع مادته الفنية ليخرج منها عملاً فنياً متناسقاً ذا هوية خاصة، لا بد للعين أن تحار في الولوج إلي ماهية ذلك العمل. في مغامرة العين بين الرسم والنحت هناك سعي حقيقي لتقديم أعمال ذات بعد جمالي يربط مواضيع الحياة اليومية بالفن، فلا يبدو الفن هنا انعكاسا للواقع بل واقع ذلك الانعكاس علي حد تعبير ألان باديو.1
هذه هي الحال في أعمال الفنان التشكيلي إياد كنعان الذي ينوع خياراته الفنية فلا يستقر عند شكل فني معين ولا يكتفي بالرسم ليعبر عن مجموعة الصرخات التي تعتمل في نفسه بل تصيغ يداه منحوتات جميلة لكل منها روح تتجاوز شكلها الظاهري لتنفتح علي التأويلات العديدة التي يراها الناظرون.
بين هذه المنحوتات الخشبية نتوقف عند عمل يسميه تحية للشهيد يمثل جذع شجرة مائل قليلا ً نحته علي شكل قبضة يد بحيث تبدو عليها التغصنات العميقة التي تصقل قوامها. عمن تعبر هذه التغصنات التي تخطف مخيلة الناظر إليها وترميها بها إلي فضاءات بعيدة؟ هل هي انعكاس لمجموعة الصور التي يستحضرها الفنان في عمله كي يحاكي واقعا ً يعيشه أم أنها رغبة لتجاوز أشكال ذلك الواقع؟ ربما أن معني العمل الفني يتجاوز الصفة الفنية التي صيغ بها أو ربما أن الفنان يريد أن يصل بنا إلي واقع متخيل آخر. ربما أنه يريد أن يضعنا في قلب حالة القلق التي تهيمن علي عمله الفني والتي ترد إليها شذرات من حالات القلق التي نعيشها. أليس للعمل الفني صوت داخلي يحاكي داخل ذواتنا؟ ألا يضعه الفنان أمامنا منتظرا ً ردود أفعال وآراء من ينظر إليه؟
تحية للشهيد ليست منحوتة عادية بل إن لها وجوداً معيناً في داخل كل شخص تتراوح نظرته إليه بحسب ما تعني له كلمة الشهيد. لا يختلف اثنان بأن لهذه الكلمة طهارة قدسية تستحضر معاني الخلود والسمو من أجل قضية أو وطن. وعليه فإن الفنان يتعامل في عمله الفني مع الذاكرة الحاضرة التي تتماوج بين مد وجزر كأنه يريد أن ينحني أمام عظمة قامة الشهيد يشد علي يده المقاومة.
أن يعبر الفنان إياد كنعان عن المقاومة عبر تطويع الخشب يعني أنه يتماهي مع وجوه عديدة لتلك المقاومة: أولها ما ينطلق من ذاته وكيف يتبني تلك الفكرة وثانيها ما يعبر عنه الآخرون في طريقة مقاومتهم. أما الثالثة فقد تكون موجهة للناظر لعمله الفني بحيث أن الفنان يدعوه للتفكير علي هذه الفكرة. عبر هذه السمة الثالثة ينشأ حوار داخلي من نوع خاص بين الناظر لأعمال الفنان ومحتوي العمل الفني، هذا الحوار شخصي بامتياز بحيث يكون كل شخص قراءته الخاصة التي يرتئيها. يبدو أن جوهر الفن يكمن في ثنايا هذا الحوار.
في خضم مغامرة العين هذه لا بد لنا أن نقف عند محطة فنية ذات نفس آخر. ففي لوحة الليثوغراف التي تمثل آلة متناثرة الأجزاء ربما تكون سيارة فقدت عجلاتها الأمامية وتدرجت ألوانها بين الأبيض والأسود، يمكننا أن نقرأ حالة المكننة التي يشير إليها الفنان والتي تعبر عن حالة فوضي وشتات تغمر حياتنا وكأنها تتماهي مع هذه الفوضي.
إذا كان للشيء شكل واحد واسم واحد فإن العمل الفني يتجاوز حيزه الفضائي وبعده الزمني مطلقا ً العنان لمجموعة من القراءات التي تختلف باختلاف الناظر إليها واختلاف تكوينه الفني. وهنا فإن لوحات الفنان إياد كنعان تضعنا أمام مجموعة من الاحتمالات التفسيرية التي لا تنحصر في لون أو قالب واحد. لننظر إلي لوحة الاكرليك التي تمثل شخصا ً يرتفع رأسه بين أبنية عمرانية مجهولة الهوية. رُسِـمَ ذلك الشخص بشكل يماثل الأبنية فملامحه غير بارزة وشكله باهت كما أن تدرجات الظل في قامته تحاكي تدرجات الأبنية التي ينحشر بينها. ربما أن الفنان إياد كنعان أراد أن يبرز الإنسان في موقف طريف يعبر عن اختناقه في المدينة الرمادية التي رمدت حياته وجعلته أشبه بكتلة إسمنتية لا روح فيها. فبين المدينة والإنسان وشائج لا حصر لها: لكن هل يريد الفنان أن يقول لنا: لكل امرئ من مدينته نصيب ؟ أم أنه يقدم لنا حالة من حالات التحول البشري التي تعتمل كينونة الإنسان في تموضعه الغريب ضمن المدينة؟ لماذا يرسمه بلا ملامح ويجعله باهت اللون؟ هل يريد أن يقول أن وجوده أصبح مسطحا ً كتلك الأبنية التي تحيط به؟
ولد الفنان إياد كنعان في بنغازي ـ لبييا (1972) وهو أردني من أصول فلسطينية. في عام 1998 حصل علي درجة دبلوم الدراسات العليا في الرسم والتصوير من معهد الفنون الجميلة ـ الجامعة اللبنانية ـ بيروت. قدَّم رسالة الدبلوم بعنوان: (تمثيل الحركة في الموديل الحي)، بإشراف أ.د فاروق سعد. في عام 2005 صدر له ديوان شعري بعنوان: المدينة نهر. ساهم في إطلاق جماعة حواس الثقافية وهو عضو مؤسس فيها. في عام 2003 ساهم في انجاز كتاب حواس السنوي الأول وهو عبارة عن مجموعة مقالات في الفن والأدب لمجموعة من الكتاب الأردنيين والعرب. له مساهمات عديدة في تصميم وإنجاز عدد من المتاحف في الأردن مثل قاعة المسكوكات ـ متحف التراث الأردني ـ جامعة اليرموك ـ اربد (2002) ومتحف التراث الشعبي الأردني ـ كلية السياحة والآثار ـ جامعة الحسين بن طلال ـ وادي موسي (2007). وإضافة لكونه عضو رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين وعضو هيئة إدارية في رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، وأميناً لسرها (2006) فقد نشر عدداً من المقالات والدراسات النقدية المتخصصة في الصحف والدوريات العربية: (الرأي الأردنية، الهلال الأردنية، القدس العربي، أخبار الأدب المصرية، السفير اللبنانية، النهار اللبنانية، الطليعة الكويتية، موقع جهات الشعر، مجلة التشكيلي الكويتية، مجلة تايكي الأردنية، مجلة فنون الأردنية). شارك في العديد من المعارض منها: معرض ثنائي بالاشتراك مع الفنان الأردني حكيم جماعين ـ رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين ـ عمَّان. ومعرض شخصي بعنوان (المدينة نهر) عمَّان.
كاتب سوري مقيم في باريس
1 ألان باديو، في استقلالية الحركة التاريخية ، مجلة الدفاتر الماركسية اللينينية، العدد 12ـ 13، تشرين أول (اكتوبر) ـ تموز (يوليو)، 1966، ص 120.
هذه هي الحال في أعمال الفنان التشكيلي إياد كنعان الذي ينوع خياراته الفنية فلا يستقر عند شكل فني معين ولا يكتفي بالرسم ليعبر عن مجموعة الصرخات التي تعتمل في نفسه بل تصيغ يداه منحوتات جميلة لكل منها روح تتجاوز شكلها الظاهري لتنفتح علي التأويلات العديدة التي يراها الناظرون.
بين هذه المنحوتات الخشبية نتوقف عند عمل يسميه تحية للشهيد يمثل جذع شجرة مائل قليلا ً نحته علي شكل قبضة يد بحيث تبدو عليها التغصنات العميقة التي تصقل قوامها. عمن تعبر هذه التغصنات التي تخطف مخيلة الناظر إليها وترميها بها إلي فضاءات بعيدة؟ هل هي انعكاس لمجموعة الصور التي يستحضرها الفنان في عمله كي يحاكي واقعا ً يعيشه أم أنها رغبة لتجاوز أشكال ذلك الواقع؟ ربما أن معني العمل الفني يتجاوز الصفة الفنية التي صيغ بها أو ربما أن الفنان يريد أن يصل بنا إلي واقع متخيل آخر. ربما أنه يريد أن يضعنا في قلب حالة القلق التي تهيمن علي عمله الفني والتي ترد إليها شذرات من حالات القلق التي نعيشها. أليس للعمل الفني صوت داخلي يحاكي داخل ذواتنا؟ ألا يضعه الفنان أمامنا منتظرا ً ردود أفعال وآراء من ينظر إليه؟
تحية للشهيد ليست منحوتة عادية بل إن لها وجوداً معيناً في داخل كل شخص تتراوح نظرته إليه بحسب ما تعني له كلمة الشهيد. لا يختلف اثنان بأن لهذه الكلمة طهارة قدسية تستحضر معاني الخلود والسمو من أجل قضية أو وطن. وعليه فإن الفنان يتعامل في عمله الفني مع الذاكرة الحاضرة التي تتماوج بين مد وجزر كأنه يريد أن ينحني أمام عظمة قامة الشهيد يشد علي يده المقاومة.
أن يعبر الفنان إياد كنعان عن المقاومة عبر تطويع الخشب يعني أنه يتماهي مع وجوه عديدة لتلك المقاومة: أولها ما ينطلق من ذاته وكيف يتبني تلك الفكرة وثانيها ما يعبر عنه الآخرون في طريقة مقاومتهم. أما الثالثة فقد تكون موجهة للناظر لعمله الفني بحيث أن الفنان يدعوه للتفكير علي هذه الفكرة. عبر هذه السمة الثالثة ينشأ حوار داخلي من نوع خاص بين الناظر لأعمال الفنان ومحتوي العمل الفني، هذا الحوار شخصي بامتياز بحيث يكون كل شخص قراءته الخاصة التي يرتئيها. يبدو أن جوهر الفن يكمن في ثنايا هذا الحوار.
في خضم مغامرة العين هذه لا بد لنا أن نقف عند محطة فنية ذات نفس آخر. ففي لوحة الليثوغراف التي تمثل آلة متناثرة الأجزاء ربما تكون سيارة فقدت عجلاتها الأمامية وتدرجت ألوانها بين الأبيض والأسود، يمكننا أن نقرأ حالة المكننة التي يشير إليها الفنان والتي تعبر عن حالة فوضي وشتات تغمر حياتنا وكأنها تتماهي مع هذه الفوضي.
إذا كان للشيء شكل واحد واسم واحد فإن العمل الفني يتجاوز حيزه الفضائي وبعده الزمني مطلقا ً العنان لمجموعة من القراءات التي تختلف باختلاف الناظر إليها واختلاف تكوينه الفني. وهنا فإن لوحات الفنان إياد كنعان تضعنا أمام مجموعة من الاحتمالات التفسيرية التي لا تنحصر في لون أو قالب واحد. لننظر إلي لوحة الاكرليك التي تمثل شخصا ً يرتفع رأسه بين أبنية عمرانية مجهولة الهوية. رُسِـمَ ذلك الشخص بشكل يماثل الأبنية فملامحه غير بارزة وشكله باهت كما أن تدرجات الظل في قامته تحاكي تدرجات الأبنية التي ينحشر بينها. ربما أن الفنان إياد كنعان أراد أن يبرز الإنسان في موقف طريف يعبر عن اختناقه في المدينة الرمادية التي رمدت حياته وجعلته أشبه بكتلة إسمنتية لا روح فيها. فبين المدينة والإنسان وشائج لا حصر لها: لكن هل يريد الفنان أن يقول لنا: لكل امرئ من مدينته نصيب ؟ أم أنه يقدم لنا حالة من حالات التحول البشري التي تعتمل كينونة الإنسان في تموضعه الغريب ضمن المدينة؟ لماذا يرسمه بلا ملامح ويجعله باهت اللون؟ هل يريد أن يقول أن وجوده أصبح مسطحا ً كتلك الأبنية التي تحيط به؟
ولد الفنان إياد كنعان في بنغازي ـ لبييا (1972) وهو أردني من أصول فلسطينية. في عام 1998 حصل علي درجة دبلوم الدراسات العليا في الرسم والتصوير من معهد الفنون الجميلة ـ الجامعة اللبنانية ـ بيروت. قدَّم رسالة الدبلوم بعنوان: (تمثيل الحركة في الموديل الحي)، بإشراف أ.د فاروق سعد. في عام 2005 صدر له ديوان شعري بعنوان: المدينة نهر. ساهم في إطلاق جماعة حواس الثقافية وهو عضو مؤسس فيها. في عام 2003 ساهم في انجاز كتاب حواس السنوي الأول وهو عبارة عن مجموعة مقالات في الفن والأدب لمجموعة من الكتاب الأردنيين والعرب. له مساهمات عديدة في تصميم وإنجاز عدد من المتاحف في الأردن مثل قاعة المسكوكات ـ متحف التراث الأردني ـ جامعة اليرموك ـ اربد (2002) ومتحف التراث الشعبي الأردني ـ كلية السياحة والآثار ـ جامعة الحسين بن طلال ـ وادي موسي (2007). وإضافة لكونه عضو رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين وعضو هيئة إدارية في رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، وأميناً لسرها (2006) فقد نشر عدداً من المقالات والدراسات النقدية المتخصصة في الصحف والدوريات العربية: (الرأي الأردنية، الهلال الأردنية، القدس العربي، أخبار الأدب المصرية، السفير اللبنانية، النهار اللبنانية، الطليعة الكويتية، موقع جهات الشعر، مجلة التشكيلي الكويتية، مجلة تايكي الأردنية، مجلة فنون الأردنية). شارك في العديد من المعارض منها: معرض ثنائي بالاشتراك مع الفنان الأردني حكيم جماعين ـ رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين ـ عمَّان. ومعرض شخصي بعنوان (المدينة نهر) عمَّان.
كاتب سوري مقيم في باريس
1 ألان باديو، في استقلالية الحركة التاريخية ، مجلة الدفاتر الماركسية اللينينية، العدد 12ـ 13، تشرين أول (اكتوبر) ـ تموز (يوليو)، 1966، ص 120.
[/size]
