قصص قصيرة جداً
تحوّّلات امبيّـــة
زيد الشهيد
(1) شـفرة الانطفاء
مازال "امبيّة " يواصل خروجه الصباحي ... ومازالت ناقته وحوارها يتقدّمانه نحو كثافة الأثل القاتم ، وهو كل يوم يتّخذ من صلادة الحجارة المرمرية مجلساً ...
المخلوقتان على يمينه بينما ينتصب إزاءه تل ذو حمرة دكينة ، وهياكل حلزونية كوّنتها تعرية السنين ومثّلتها قِمة لا تشابه قمم التلال المعتادة ....
الصغار من أقرانه لا يقربون المكان .....
تحذيرات الأهل كانت سدّا ًمانعاً لوصولهم رغم أنهم وصلوا . سكنوا تعرجاته واعتلوا قمته ولكن بحذر لا يوازيه حذرٌ آخر ، فكل ما حولهم وتحت تكوينات حديدية وليدة الطبيعة الصحراوية الغريبة ، الغامضة شابتها ذرّات رمل تماسكت مع نسيجها المعدني .. في البدء دُهشوا للمرأى . نقلوا معهم تكتلات أحجام متفاوتة .ظلوا يؤمونه ، ثم ما لبثوا أن تركوه . صار جغرافيةً ماثلة لا تثير الفضول .... اتّحدت آراؤهم مع تطلعات أهليهم ( إلا " امبية " .... كان يحيل وقت ما قبل النوم أسئلةً – عن غرابة التل ومكوناته – يسكبها على مسمع الأم فتأتيه إجابات ملفّقة مشوبة بالتخويف والتحذير يصّبان في رغبة عدم التقرب خشية الأذى – لكنَّ الوسادة ما فتِئت رديفةَ التخيّل ، ينطلق معها قبل أن تنقله أجنحة الكرى بعيدا ) ....
سمِع من أبيه أن الحديد مادةٌ تدخل في صناعة السيارات والطائرات والقطارات ... ولأنه اعتاد على رؤية السيارات تقطع الشوارع ، والطائرات تمر عبر أجواء واحته باتجاه مدن الشمال فقد تعلَّق فضولُه بالقطار ..... سمعَ به ولم يره ... صورة سحرية – هكذا أفشى لنفسه – يصنعها هذا المعدن ويقدّمها كيانا جوّالا يجوب المسافات ويعانق المدن .... ذلك ما أرهقه في التحليق والتصور .... ولكي يستكمل عدة الانطلاق مع الخيال وينأى عن تهويمات لا يستطيع ذهنه تشكيلها حوَّل زمنه الليلي القادم استفهامات عن القطار وشكله / حجمه ومحتوياته / المحطات التي يدخلها ويخرج منها / ثم تصميمه على أن يعتليه في اليوم التالي ...
في اليوم التالي لم يجلس على الحجارة المرمرية بل تحرّك ليطبق ما فكر به البارحة بعد إلقائه نظرة على الناقة وحوارها واطمئنانه لوجودهما منهمكين باجترار ما اقتطعاه من أطراف شجيرات الأثل اتخذ – بين التعرّجات – طريقا للصعود بحثاً عن مكانٍ يراه مُلبيّاً للرغبة .
قال : "هذه المحطة ، وهذا القطار ." .
جلس على مساحة مسطّحة لها متكأٌ محددٌ.. التفت يمينا وقال : "هذه النافذة المربعة بزجاجاتها الصافية الشفافة كما وصفها أبي ستعرض مشهد الأشياء التي تمر ... وهنا على شمالي الركاب يجاورونني ." ...
باتكائه على المسند الخلفي وشروع لحظة الاسترخاء و اندفاع صوت ولَّده انطباقُ شفتيه : فووووو شعر بآلة الخيال تنطلق ... تتهافت الصور وتعدو إلى الوراء بأقصى تمكُنٍ ... تودِّعُه محطاتٌ وتستقبله أُخر ؛ وهو من فرطِ سرعته صار يهتز ... مال القطارُ فمالَ الجسد.. تفاقم الميلانُ فزاد الخُيلاء ....زاد..زاد !! ما لبث أن تهاوى جانبا !!
فكان السقوط ...
بروز حديدي ناتيء هو الذي ضربَ رأسَه فأنتج سخونةً رطّبت الشعر المنسرح وساحت سائلا تلمّسه أحمرَ لزجاً . أرعبته سرعة وصول الحمرة إلى ياقة ثوبه ثم نزولها إلى الجيب والزيق ... لحظتها هرع يتعثر باتجاه البيت ناسياً أو متناسيا الناقةَ وحوارها .
تلك الليلة كان قطارُ الحمّى يقلّه صوبَ محطات الهذيان ...
ولا ندري إن كان " امبية " سيُحبُّ القطارَ ويُفكِّر بركوبه بعد ذلك أم أنه سينضمُّ لأقرانه وينسى أنَّ ثمّة تلاً حديديا يرعى جواره ... لا ندرى . لأن أمّه الساهرة إلى جانبه – تلك الليلة - آثرت عدم التكلم معه خوفاً من وقوعه في دائرة استعادة الحدث وتبعاته .
تحوّّلات امبيّـــة
زيد الشهيد
(1) شـفرة الانطفاء
مازال "امبيّة " يواصل خروجه الصباحي ... ومازالت ناقته وحوارها يتقدّمانه نحو كثافة الأثل القاتم ، وهو كل يوم يتّخذ من صلادة الحجارة المرمرية مجلساً ...
المخلوقتان على يمينه بينما ينتصب إزاءه تل ذو حمرة دكينة ، وهياكل حلزونية كوّنتها تعرية السنين ومثّلتها قِمة لا تشابه قمم التلال المعتادة ....
الصغار من أقرانه لا يقربون المكان .....
تحذيرات الأهل كانت سدّا ًمانعاً لوصولهم رغم أنهم وصلوا . سكنوا تعرجاته واعتلوا قمته ولكن بحذر لا يوازيه حذرٌ آخر ، فكل ما حولهم وتحت تكوينات حديدية وليدة الطبيعة الصحراوية الغريبة ، الغامضة شابتها ذرّات رمل تماسكت مع نسيجها المعدني .. في البدء دُهشوا للمرأى . نقلوا معهم تكتلات أحجام متفاوتة .ظلوا يؤمونه ، ثم ما لبثوا أن تركوه . صار جغرافيةً ماثلة لا تثير الفضول .... اتّحدت آراؤهم مع تطلعات أهليهم ( إلا " امبية " .... كان يحيل وقت ما قبل النوم أسئلةً – عن غرابة التل ومكوناته – يسكبها على مسمع الأم فتأتيه إجابات ملفّقة مشوبة بالتخويف والتحذير يصّبان في رغبة عدم التقرب خشية الأذى – لكنَّ الوسادة ما فتِئت رديفةَ التخيّل ، ينطلق معها قبل أن تنقله أجنحة الكرى بعيدا ) ....
سمِع من أبيه أن الحديد مادةٌ تدخل في صناعة السيارات والطائرات والقطارات ... ولأنه اعتاد على رؤية السيارات تقطع الشوارع ، والطائرات تمر عبر أجواء واحته باتجاه مدن الشمال فقد تعلَّق فضولُه بالقطار ..... سمعَ به ولم يره ... صورة سحرية – هكذا أفشى لنفسه – يصنعها هذا المعدن ويقدّمها كيانا جوّالا يجوب المسافات ويعانق المدن .... ذلك ما أرهقه في التحليق والتصور .... ولكي يستكمل عدة الانطلاق مع الخيال وينأى عن تهويمات لا يستطيع ذهنه تشكيلها حوَّل زمنه الليلي القادم استفهامات عن القطار وشكله / حجمه ومحتوياته / المحطات التي يدخلها ويخرج منها / ثم تصميمه على أن يعتليه في اليوم التالي ...
في اليوم التالي لم يجلس على الحجارة المرمرية بل تحرّك ليطبق ما فكر به البارحة بعد إلقائه نظرة على الناقة وحوارها واطمئنانه لوجودهما منهمكين باجترار ما اقتطعاه من أطراف شجيرات الأثل اتخذ – بين التعرّجات – طريقا للصعود بحثاً عن مكانٍ يراه مُلبيّاً للرغبة .
قال : "هذه المحطة ، وهذا القطار ." .
جلس على مساحة مسطّحة لها متكأٌ محددٌ.. التفت يمينا وقال : "هذه النافذة المربعة بزجاجاتها الصافية الشفافة كما وصفها أبي ستعرض مشهد الأشياء التي تمر ... وهنا على شمالي الركاب يجاورونني ." ...
باتكائه على المسند الخلفي وشروع لحظة الاسترخاء و اندفاع صوت ولَّده انطباقُ شفتيه : فووووو شعر بآلة الخيال تنطلق ... تتهافت الصور وتعدو إلى الوراء بأقصى تمكُنٍ ... تودِّعُه محطاتٌ وتستقبله أُخر ؛ وهو من فرطِ سرعته صار يهتز ... مال القطارُ فمالَ الجسد.. تفاقم الميلانُ فزاد الخُيلاء ....زاد..زاد !! ما لبث أن تهاوى جانبا !!
فكان السقوط ...
بروز حديدي ناتيء هو الذي ضربَ رأسَه فأنتج سخونةً رطّبت الشعر المنسرح وساحت سائلا تلمّسه أحمرَ لزجاً . أرعبته سرعة وصول الحمرة إلى ياقة ثوبه ثم نزولها إلى الجيب والزيق ... لحظتها هرع يتعثر باتجاه البيت ناسياً أو متناسيا الناقةَ وحوارها .
تلك الليلة كان قطارُ الحمّى يقلّه صوبَ محطات الهذيان ...
ولا ندري إن كان " امبية " سيُحبُّ القطارَ ويُفكِّر بركوبه بعد ذلك أم أنه سينضمُّ لأقرانه وينسى أنَّ ثمّة تلاً حديديا يرعى جواره ... لا ندرى . لأن أمّه الساهرة إلى جانبه – تلك الليلة - آثرت عدم التكلم معه خوفاً من وقوعه في دائرة استعادة الحدث وتبعاته .