قراءة في السيرة الذاتية و الابداعية
ـ ارتير رامبو ـ من خلال ديوانه
جمال غلاب
من الابداع الى التمرد؟
إهداء : الى سليمة سعادة عربون محبة و إخاء وو فاء .
ّ إنني أعرف مثل المسلمين أن ما هو مكتوب ينبغي أن يقع و هذا كل شيء ّ من توقيع ّ أرتير رامبو و هو على فراش الموت ّ.
مئات الأبحاث و الدراسات و المقاربات التي نشرت بمختلف اللغات الحية عن هذا الشاعر الأعجوبة , و لكن ليس ثمة من وفق الى سبر أغوار هذا الانقلاب الذي أصاب ّ رامبو ّ من شاعر تفيض جوانحه صورا و الوانا و معان الى متمرد , و يؤذيه أشد الأذاء أن يذكره أحد بماضيه الابداعي بقولهّ : لقد ذهب ذلك الماضي و لست أفكر فيه بعد ّ فما هذا الطلسم المغلق ؟ وما هذه الأحجية التي استعصى تفسيرها ؟ و لفتح الأولى و تفسير الثانية يجدر بنا الرجوع الى ديوانه لرصد الكثير من المحطات بحياته . قصد السباحة في نهر ابداعه من منابعه الأولى الى مصبه .
و أول سؤال نطرحه من يكون ّ ارتير رامبو ّ ؟ و لد ّرامبوّ بمدينة شارل فيل الفرنسية في 20 أوت 1854 من أب كان نقيبا بالجيش الاستعماري الفرنسي المتعفن و المشحون بارهاب و المتغطرس … الموعز الى التخلف الاجتماعي و الثقافي و الحضاري و في عنفوان هذا التناقض وو حشيته . و لد رامبو الشاعر الفرنسي الذي بلبل الغنائية الفرنسية , و أرهص بالرمزية الحديثة و كان أصغر عبقري من عباقرة الشعر في العالم .
كان في الخامسة عشرة من عمره حين تفتحت عبقريته الشعرية العجيبة و قد ظل يكتب طوال خمس سنوات ثم اذا به يصمت وهو في كامل قواه العقلية و الصحية … فما السر في ذلك يا ترى ؟ هل هي صرخة مبدع و صدى لوجع عميق بنفسيته المعذبة ؟ … هل هي ردة فعل للاعلان عن أزمة ؟ أم هو أقصى درجات التعبير للتعبير عما لا يعبر عنه ؟ ازاء الخلل الخطير الذي تسرب الى المبادئ الانسانية لثورة المبدعين و المفكرين الفرنسيين ؟ المؤسسة على الأخوة و المحبة و العدالة ؟ . وما سايرها من انحرافات كالسطو و الاعتصاب و الابادة لكل الجزائريين .
ان مبدعا مثل أرتير رامبو الذي ترسخت فيه المبادئ الثورة الفرنسية النبيلة لا يمكنه أن يتعايش مع عالم يتناقض فيه الخطاب الثقافي مع الخطاب السياسي بل الخطاب برمته مع الممراسات ؟ و انتقاما من هذا الوضع المتعفن فقد ركل ّ رامبو ّ الشعر بقدميه ثم ولى وجهه شطر الدنيا يضرب في طرق الشرق و الغرب سعيا وراء النجاة بضميره من خلال خنق عالمه الداخلي ليعيش عالمه الخارجي و هكذا مات الشاعر الذي أبدع خمس سنوات فقط وولد الهائم على وجهه في صحاري العرب بحثا عن سحر الشرق ؟. بين الإ سكندرية و عدن ليعيش عشرين عاما …. مات صاحب القثارة التي أنشدت أغاني سفينة السكرى و دمعة و انشودة أعلى الأبراج , و مجموعتي الاشراقات , و فصل الجحيم , و قصيدة ّ يوغرطا ّ الأمير عبد القادر الجزائري , وولد الهائم على وجهه ..في صدره حكم و نفسه غليان ؟ …الهائم على وجهه الذي يتاجر بالسلاح و البخور و المسك و التمر بين هراري و قبرص و اليمن حتى اذا جمع بعض المال أصيب بمرض في ساقه أدى الى قطهعا ثم انتشر مرض السرطان في عظامه فمات به و هو في السابعة و الثلاثين .
لماذا تراه أثر الهجرة الى الشرق ؟ ومن يكون هذا الشرق ؟ الاجابة نجدها مدفونة في تركته التي تتمثل في أشياء بسيطة لكنها ذات أصداء بعيدة قليلة و لكنها مفيدة رخيسة الثمن و لكنها عظيمة المعنى انها بإيجاز طابع من الشمع رسمت عليه حروف عربية فأحالوه على المستشرق الكبير ّ ما سينيون ّ الذي قرأ عليه ّ الحمد الله و حده ّ و قرأ عليه عبدو رامبو أي عبد الله رامبو و عليه نقال لبان أي تاجر بخور ….و قد ذكرت أخته ّ ازبيل انه كان يردد و هو على فراش الموت عبارة ـ الله كريم … الله كريم … الله كريم بالعربية الفصحى . و لماذا نذهب بعيدا لقد كتب الى ذويه و هو في عدن بقوله ّ انكم تحدثونني عن الأنباء السياسية ليتكم تعرفون مقدار عدم اكتراثي لهذا كله انني لم أقرأ صحيفة منذ عامين و أن جميع هذه الأمور أصبحت لدي غير مفهومة انني الآن أعرف مثل المسلمين أن ماهو مكتوب ينبغي أن يقع و هذا كل شيء ّ
مقولة رامبو , الأخيرة في رسالته الموجهة الى اسرته تنطوي تحتها الكثير من الاحتمالات و التأ ويلات و تبيح لنا القيام بعملية الربط بينهما و بين ما كان يحدث من سخط و عدم الرضا على ما آلت اليه سياسة النظام الاستعماري الفرنسي و أول عناصر الربط هذه الأصداء التي تركتها عملية الافراج عن الأمير عبد القادر الجزائري التي تمخض عنها الاحساس بالذنب من أغلبية الأحرار الفرنسيين و أول المعتذرين كان نابليون الثالث بقوله و هو يوجه كلامه الى الأمير عبد القادر ّ انكم جلبتم دقة نظري و أستلزمتم محبتي بما اشتهرتم به من خصال حميدة و بسالةو شجاعة وجميع ما ابرزتموه من أنواع المدافعة عن وطنكم …و لا أنظر اليكم بنظرة أسير بل بنظرة ضيف يحترم ّ ….اضافة الى ما نقله أحد الكتاب الفرنسيين من مقارنة بين استقبال باريس لعبد القادر الجزائري و استقبالها للجنرال السفاح ّ لا موريسيه ّ الذي حارب الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر و كيف أن ذلك الجنرال السفاح يمشي في طرقات باريس فلا يلتقت اليه أحد في حين يدخل الأمير عبد القادر الجزائري فاتحا و كل الفرنسيين يتزاحمون لمشاهدته .
يقال أن كل هذه الخصال الحميدة التي أنضجتها ثقافة الرجل و تربيته السليمة ألهمت الشاعر المتمرد رامبو الذي بعد تفتحه على لغة العرب و اختلاطه بهم أشاد ببطولة الأمير عبد القادر في قصيدة باللغة الفرنسية عنونها ّ يو غرطا ّ وكانت لا زمتها عبد القادر ســــــــــليل ّ يو غرطا ّ .
لقد تعلم ّ رامبو ّ من رحلته الى الشرق أشياء كثيرة من الحضارة الشرقية تعلم و أقتنع أنها مؤسسة على سؤال مفاده لماذا ؟ عكس الحضارة الغربية التي ركلها رامبو بقدميه و المفضلة لسؤال كيف ؟ وفي رحلة بحثه في مرامي السؤالين وما تضمناه من احتمال الواقع و الواقع بالذات تيقن أن سؤال لماذا ؟ يؤدي الى حضارة انسانية متوازنة يتسع افقها للجميع و سؤال كيف ؟ غايته شوفينية … عنصرية … تولوتارية مقيتة ووسيلة للقضاء على ألآخر قصد الوصول الى فرض حضارة القوة و ليست قوة الحضارة ؟. و للتدليل على ما سلف ذكره ندرج مقطعا من اشعاعات من ديوان ّ رامبو ّ ـ و أرسلت الى الشيطان أكاليل الشهداء و اشعاعات الفن وكبرياء المخترعين الخلاقين و عدت الى الشرق … و الى الحكمة الأولى الأبدية ـ و يضيف ـ مدن انه شعب نصبت له هذه اللبنانا ت الحالة …قصور من بلور تتحرك على سكك لا ترى ….( ما اعظمها من حضارة ولدت بشرقنا الشامخ ).
و الحق أنه كلما حاولنا تلمس حقيقة ° رامبو ° الا و اعترض منحى تفكيرنا سيل جارف من الأسئلة الحارقة المقلقة … لماذا ° رامبو ° طعن آلهة الشعر و قد عبدها خمس سنوات ؟ و جادت عليه بأنفس و أغنى عطاياها ؟ لماذا انصرف عنها الى دنيانا العادية المبتذلة ؟ و هل في انصرافه عن الشعر تكمن سر عبقريته ؟
لقد كان بإمكان ـ رامبوـ التعبير عن سخط رفضه لعالمه المتعفن ….؟ كإتخاذ و سيلة الانتحار لوضع حد لحياته كما فعل آلاف المبدعين حينما تضييق الدنيا بهم و لا يجدون مخرجا لنصرة القيم النبيلة التي تسكنهم … لكنه فضل أن يخنق عالمه الداخلي ليعلن للعالم بأنه فعل ذلك . و هو في كامل وعيه ؟. و يكون بفعلته هذه قد أغلق أبوات كل الاحتمالات و التأويلات التي تصفه بالجنون و فقدان العقل و الضعف …..؟ . و هنا يكمن سر عبقريته . عبقرية الرجل الحالم بالسلم و التسامح و العدالة و المساواة بين أبناء البشر … و لماذا نذهب في غوصنا في البحث عن السبب ؟. أو ليس هو الذي كان قلقا من نابليون الثالث جراء تأخره في تطبيق الاشتراكية التي كان يعني بها القضاء على الاستعباد و القهر و الاستغلال و تحــرير الشعوب ………؟
كان ـ رامبو ـ يعتقد كل الخير في أمته العظيمة التي أعادت صياغة اسئلة التاريخ ؟ كما كان يعتقد في ثورتها بأنها الانفجار العظيم ؟ . ثورة أشهرتها ضد التاريخ ؟ و ضد الأحداث الفاقدة للانسجام …و على دروب مبادئها فضحت نفاق و خبث الكنيسة الكاثولوكية و ما كان يربطها من علاقات مشبوهة مع دكتاتورية الحكام … هذه الثورة الانسانية التي في أبعادها ـ أخوة محبة عدالة ـ … كان ينتظر منها أن تكون تتويجا لنضالات و تضحيات كل الشعوب بدءا من الأمبراطورية الرومانية و بروتورياتها ـ بريتور المدينة و بريتور الأجانب ـ و لما لا نموذجا من نماذج الخلاص البشري …. ـ لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ـ فقد تم انتهاك هذه المبادىء من خلال الغزو الفرنسي لشعوب أسيا وأفريقيا فيما بعد و القضاء على قلا عها الثقافية و الحضارية … كل هذه العوامل مجتمعة دفعت برامبو الشاعر الى الانتحار ابداعيا من خلال الفرار من بلد ه لنجاة بضميره لذلك يقول ـ انكم تحدثونني عن الانباء السياسية ليتكم تعرفون مقدار عدم اكتراثي بها ……. ـ
في كثير من الأحيان و حينما يخلو المبدع الى مراجعة نفسه و لما يكتب و ينشد و يغني من أشعار يكتشف فجأة أن العالم الذي يتحرك فيه مشحو ن بالنفاق و الغدر و أن ما يراه و يتحسسه و يتلمسه بمشاعره النبيلة لا يتجاوب مع قناعاته بسبب ما ترتديه الحياة من تزييف و مغالطات فيعود الى معاتبة نفسه و تعذيبها و مثل هذه الظاهرة اذا انتابت المبدع ليست مشينة بل هي ظاهرة صحية و هو ما حدث مع لشاعر ـ رامبو ـ حينما اهتدى الى أمر في غاية الخطورة و هو ما عبر عنه بقوله ـ ما اسمه عمل: أن كل شيء للهدم و أن علي أن أمحو كل شيء من رأسي … أما ما ينبغي أن يعمله ـ يجيب عليه بقوله أيضا ـ بلوغ المجهول بإ يقاع الاختلال في جميع الحواس ـ و لعل ما كتبه لصديقه ـ ايزامبار معلقا على قصيد ته ـ القلب المعذب ـ بقوله ـ إن الشاعر في رأيه هو سارق نار يضيء يها ظلمات التي تغشي علائق الاشياء فيما بينها ـ لقد أراد رامبو أن يكون عرافا و أن يمارس الشعر في سحره و لهذا لم يتردد في أن يقول لقد أصبحت أوبرا أسطورية و الأوبرا الأسطورية كما يعرفها بيار جان جوف ـ عمل الفن ممزوجا في ينبوع اللا وعي و ملاعبا هاويته ـ
أن ما سلف ذكره من ارهاصات بامكان لأي متذوق لعذب الكلام الوقوف عليه في القصائد المعنونة ب ـ زهور ـ و ـ قيم ـ و ـ دمعة ـ و ـ الغربان ـ و ـ الزوج الجهنمي ـ و لاسيما قصيدة ـ الفجر ـ هذه القصيدة النثرية التي يتطاير منها الشرر و التي تعكس اشعاعات مراوية غنية و لإكتشاف هذا السحر نختار المقطع التالي ـ عانقت فجر الصيف و لم يكن ثمة في جبين القصور حركة ولا نسبة … كان الماء ميتا و لم تكن معسكرات الظلال تغادر درب الغابة … لقد مشيت فأيقظت الأنفاس النظرة الحرى و تلفتت الأحجار تنظر … و نهضت الأجنحة من غير اصطفاق .. و ضحكت للشلال يتناثر شعره عبر شجر الصنوبر و على رؤوس الاشجار الفضية رأيت الآلهة ـ
و في تعبيره عما لا يعبر عنه هو اكتشافاته الجديدة و ايمانه العميق أن للكلمة كيمياء خاصة و في ذلك يقول في قصيدة الهذيان ـ le déliresـ لقد اخترعت للأحرف الصوتية ـvoyelle ـ الوانا فال ـ Aـ سوداء و الـ ـ Eـ بيضاء و الـ ـ Oـ زرقاء و الـ ـ Uـ خضراء . لقد نظمت شكل كل حرف و حركته و أخذت أخترع بالإ يقاعات الغريزية بلغة شعرية تتقبلها جميع الحواس عاجلا أم أجلا . لقد كتبت الصمت و الليل و سجلت ما لا يعبر عنه و ركزت ـ و يضيف في القصيدة نفسها ـ الهلسنة ـ HALLUCINATION ـ فكنت أرى مسجدا ـ MOSQUéـ بدلا من مصنع و مدرسة للطبول صنعتها الملائكة و مركبات على دروب السماء و حالة في قاع يحيرة و جنا و عفاريت ثم كنت أشرح سفسطا تي السحرية بهلسنة الكلمات ـ
و الحق أنه عند فراغي من قراءتي الأولى ـ لديوان ـ أرتير رامبو ـ و سيرته الذاتية تكون لدي انطباعا مفاده أن واقع الابداع ينحسر في الجدال القائم منذ أكثر من 500 سنة قبل الميلاد حول الشعر من ناحية الضرورة و الخيار و قد تبين ذلك في استشهاد ـ أفلاطون ـ في جمهوريته حيث بعد أن طردهم ـ أي الشعراء ـ في بداية تصنيفه أعادهم من باب التغني بالفضائل و أصحابها و تما شيا مع فصل الرسول صلى الله عليه و سلم في الاشادة بالشعر و الشعراء من خلال انزاله ل ـ حسان بن ثابت ـ أعلى المراتب بعد التأكد من صحة موضوعية استنتاج عبد الله بن رواحة ـ الشعر شيء يختلج في صدري فينطقه لساني ـ و من العصر القديم الى العصر الحديث البارودي الذي عبر عن مفهومه للشعر بطريقة مشابهة بقوله ـ الشعر لعمة خيالية يتألق و ميضها في سماواة الفكر فتبعث أشعتها الى صحيفة القلب فيفيض بلآلئها نورا يتصل خيطه بأسلة اللسان فينفث بألوان من الحكمة و انتهيت الى و صف رامبو نفسه كونه سارق نار لكن الذي لم أضمه هو قول رامبو عندما سئل عن سبب تخليه عن الشعر و انصرافه ـ لقد ذهب ذلك الماضي و لم أعد افكر فيه ؟ ـ
لكن في قراءتي الثانية و تبعا لتمعني في أوراق رامبو المدفونة وجدت الرجل لم يشذ عن القاعدة و على ما سلف ذكره من حجج و براهين و استنتاجات و انما الذي كان غائبا في قراءتي الأولى هو غياب عنصر الربط بين سيرته الذاتية و الابداعية و ما رافقها من أحداث في عصره لذلك فان سر عبقريته في ركله للشعر أعمق … لأنه يعتبر الابداع رسالة انسانية لا و طن لها و الشعر و سيلة للتمعن بالفضائل على حد قول ـ افلاطون
مئات الأبحاث و الدراسات و المقاربات التي نشرت بمختلف اللغات الحية عن هذا الشاعر الأعجوبة , و لكن ليس ثمة من وفق الى سبر أغوار هذا الانقلاب الذي أصاب ّ رامبو ّ من شاعر تفيض جوانحه صورا و الوانا و معان الى متمرد , و يؤذيه أشد الأذاء أن يذكره أحد بماضيه الابداعي بقولهّ : لقد ذهب ذلك الماضي و لست أفكر فيه بعد ّ فما هذا الطلسم المغلق ؟ وما هذه الأحجية التي استعصى تفسيرها ؟ و لفتح الأولى و تفسير الثانية يجدر بنا الرجوع الى ديوانه لرصد الكثير من المحطات بحياته . قصد السباحة في نهر ابداعه من منابعه الأولى الى مصبه .
و أول سؤال نطرحه من يكون ّ ارتير رامبو ّ ؟ و لد ّرامبوّ بمدينة شارل فيل الفرنسية في 20 أوت 1854 من أب كان نقيبا بالجيش الاستعماري الفرنسي المتعفن و المشحون بارهاب و المتغطرس … الموعز الى التخلف الاجتماعي و الثقافي و الحضاري و في عنفوان هذا التناقض وو حشيته . و لد رامبو الشاعر الفرنسي الذي بلبل الغنائية الفرنسية , و أرهص بالرمزية الحديثة و كان أصغر عبقري من عباقرة الشعر في العالم .
كان في الخامسة عشرة من عمره حين تفتحت عبقريته الشعرية العجيبة و قد ظل يكتب طوال خمس سنوات ثم اذا به يصمت وهو في كامل قواه العقلية و الصحية … فما السر في ذلك يا ترى ؟ هل هي صرخة مبدع و صدى لوجع عميق بنفسيته المعذبة ؟ … هل هي ردة فعل للاعلان عن أزمة ؟ أم هو أقصى درجات التعبير للتعبير عما لا يعبر عنه ؟ ازاء الخلل الخطير الذي تسرب الى المبادئ الانسانية لثورة المبدعين و المفكرين الفرنسيين ؟ المؤسسة على الأخوة و المحبة و العدالة ؟ . وما سايرها من انحرافات كالسطو و الاعتصاب و الابادة لكل الجزائريين .
ان مبدعا مثل أرتير رامبو الذي ترسخت فيه المبادئ الثورة الفرنسية النبيلة لا يمكنه أن يتعايش مع عالم يتناقض فيه الخطاب الثقافي مع الخطاب السياسي بل الخطاب برمته مع الممراسات ؟ و انتقاما من هذا الوضع المتعفن فقد ركل ّ رامبو ّ الشعر بقدميه ثم ولى وجهه شطر الدنيا يضرب في طرق الشرق و الغرب سعيا وراء النجاة بضميره من خلال خنق عالمه الداخلي ليعيش عالمه الخارجي و هكذا مات الشاعر الذي أبدع خمس سنوات فقط وولد الهائم على وجهه في صحاري العرب بحثا عن سحر الشرق ؟. بين الإ سكندرية و عدن ليعيش عشرين عاما …. مات صاحب القثارة التي أنشدت أغاني سفينة السكرى و دمعة و انشودة أعلى الأبراج , و مجموعتي الاشراقات , و فصل الجحيم , و قصيدة ّ يوغرطا ّ الأمير عبد القادر الجزائري , وولد الهائم على وجهه ..في صدره حكم و نفسه غليان ؟ …الهائم على وجهه الذي يتاجر بالسلاح و البخور و المسك و التمر بين هراري و قبرص و اليمن حتى اذا جمع بعض المال أصيب بمرض في ساقه أدى الى قطهعا ثم انتشر مرض السرطان في عظامه فمات به و هو في السابعة و الثلاثين .
لماذا تراه أثر الهجرة الى الشرق ؟ ومن يكون هذا الشرق ؟ الاجابة نجدها مدفونة في تركته التي تتمثل في أشياء بسيطة لكنها ذات أصداء بعيدة قليلة و لكنها مفيدة رخيسة الثمن و لكنها عظيمة المعنى انها بإيجاز طابع من الشمع رسمت عليه حروف عربية فأحالوه على المستشرق الكبير ّ ما سينيون ّ الذي قرأ عليه ّ الحمد الله و حده ّ و قرأ عليه عبدو رامبو أي عبد الله رامبو و عليه نقال لبان أي تاجر بخور ….و قد ذكرت أخته ّ ازبيل انه كان يردد و هو على فراش الموت عبارة ـ الله كريم … الله كريم … الله كريم بالعربية الفصحى . و لماذا نذهب بعيدا لقد كتب الى ذويه و هو في عدن بقوله ّ انكم تحدثونني عن الأنباء السياسية ليتكم تعرفون مقدار عدم اكتراثي لهذا كله انني لم أقرأ صحيفة منذ عامين و أن جميع هذه الأمور أصبحت لدي غير مفهومة انني الآن أعرف مثل المسلمين أن ماهو مكتوب ينبغي أن يقع و هذا كل شيء ّ
مقولة رامبو , الأخيرة في رسالته الموجهة الى اسرته تنطوي تحتها الكثير من الاحتمالات و التأ ويلات و تبيح لنا القيام بعملية الربط بينهما و بين ما كان يحدث من سخط و عدم الرضا على ما آلت اليه سياسة النظام الاستعماري الفرنسي و أول عناصر الربط هذه الأصداء التي تركتها عملية الافراج عن الأمير عبد القادر الجزائري التي تمخض عنها الاحساس بالذنب من أغلبية الأحرار الفرنسيين و أول المعتذرين كان نابليون الثالث بقوله و هو يوجه كلامه الى الأمير عبد القادر ّ انكم جلبتم دقة نظري و أستلزمتم محبتي بما اشتهرتم به من خصال حميدة و بسالةو شجاعة وجميع ما ابرزتموه من أنواع المدافعة عن وطنكم …و لا أنظر اليكم بنظرة أسير بل بنظرة ضيف يحترم ّ ….اضافة الى ما نقله أحد الكتاب الفرنسيين من مقارنة بين استقبال باريس لعبد القادر الجزائري و استقبالها للجنرال السفاح ّ لا موريسيه ّ الذي حارب الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر و كيف أن ذلك الجنرال السفاح يمشي في طرقات باريس فلا يلتقت اليه أحد في حين يدخل الأمير عبد القادر الجزائري فاتحا و كل الفرنسيين يتزاحمون لمشاهدته .
يقال أن كل هذه الخصال الحميدة التي أنضجتها ثقافة الرجل و تربيته السليمة ألهمت الشاعر المتمرد رامبو الذي بعد تفتحه على لغة العرب و اختلاطه بهم أشاد ببطولة الأمير عبد القادر في قصيدة باللغة الفرنسية عنونها ّ يو غرطا ّ وكانت لا زمتها عبد القادر ســــــــــليل ّ يو غرطا ّ .
لقد تعلم ّ رامبو ّ من رحلته الى الشرق أشياء كثيرة من الحضارة الشرقية تعلم و أقتنع أنها مؤسسة على سؤال مفاده لماذا ؟ عكس الحضارة الغربية التي ركلها رامبو بقدميه و المفضلة لسؤال كيف ؟ وفي رحلة بحثه في مرامي السؤالين وما تضمناه من احتمال الواقع و الواقع بالذات تيقن أن سؤال لماذا ؟ يؤدي الى حضارة انسانية متوازنة يتسع افقها للجميع و سؤال كيف ؟ غايته شوفينية … عنصرية … تولوتارية مقيتة ووسيلة للقضاء على ألآخر قصد الوصول الى فرض حضارة القوة و ليست قوة الحضارة ؟. و للتدليل على ما سلف ذكره ندرج مقطعا من اشعاعات من ديوان ّ رامبو ّ ـ و أرسلت الى الشيطان أكاليل الشهداء و اشعاعات الفن وكبرياء المخترعين الخلاقين و عدت الى الشرق … و الى الحكمة الأولى الأبدية ـ و يضيف ـ مدن انه شعب نصبت له هذه اللبنانا ت الحالة …قصور من بلور تتحرك على سكك لا ترى ….( ما اعظمها من حضارة ولدت بشرقنا الشامخ ).
و الحق أنه كلما حاولنا تلمس حقيقة ° رامبو ° الا و اعترض منحى تفكيرنا سيل جارف من الأسئلة الحارقة المقلقة … لماذا ° رامبو ° طعن آلهة الشعر و قد عبدها خمس سنوات ؟ و جادت عليه بأنفس و أغنى عطاياها ؟ لماذا انصرف عنها الى دنيانا العادية المبتذلة ؟ و هل في انصرافه عن الشعر تكمن سر عبقريته ؟
لقد كان بإمكان ـ رامبوـ التعبير عن سخط رفضه لعالمه المتعفن ….؟ كإتخاذ و سيلة الانتحار لوضع حد لحياته كما فعل آلاف المبدعين حينما تضييق الدنيا بهم و لا يجدون مخرجا لنصرة القيم النبيلة التي تسكنهم … لكنه فضل أن يخنق عالمه الداخلي ليعلن للعالم بأنه فعل ذلك . و هو في كامل وعيه ؟. و يكون بفعلته هذه قد أغلق أبوات كل الاحتمالات و التأويلات التي تصفه بالجنون و فقدان العقل و الضعف …..؟ . و هنا يكمن سر عبقريته . عبقرية الرجل الحالم بالسلم و التسامح و العدالة و المساواة بين أبناء البشر … و لماذا نذهب في غوصنا في البحث عن السبب ؟. أو ليس هو الذي كان قلقا من نابليون الثالث جراء تأخره في تطبيق الاشتراكية التي كان يعني بها القضاء على الاستعباد و القهر و الاستغلال و تحــرير الشعوب ………؟
كان ـ رامبو ـ يعتقد كل الخير في أمته العظيمة التي أعادت صياغة اسئلة التاريخ ؟ كما كان يعتقد في ثورتها بأنها الانفجار العظيم ؟ . ثورة أشهرتها ضد التاريخ ؟ و ضد الأحداث الفاقدة للانسجام …و على دروب مبادئها فضحت نفاق و خبث الكنيسة الكاثولوكية و ما كان يربطها من علاقات مشبوهة مع دكتاتورية الحكام … هذه الثورة الانسانية التي في أبعادها ـ أخوة محبة عدالة ـ … كان ينتظر منها أن تكون تتويجا لنضالات و تضحيات كل الشعوب بدءا من الأمبراطورية الرومانية و بروتورياتها ـ بريتور المدينة و بريتور الأجانب ـ و لما لا نموذجا من نماذج الخلاص البشري …. ـ لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ـ فقد تم انتهاك هذه المبادىء من خلال الغزو الفرنسي لشعوب أسيا وأفريقيا فيما بعد و القضاء على قلا عها الثقافية و الحضارية … كل هذه العوامل مجتمعة دفعت برامبو الشاعر الى الانتحار ابداعيا من خلال الفرار من بلد ه لنجاة بضميره لذلك يقول ـ انكم تحدثونني عن الانباء السياسية ليتكم تعرفون مقدار عدم اكتراثي بها ……. ـ
في كثير من الأحيان و حينما يخلو المبدع الى مراجعة نفسه و لما يكتب و ينشد و يغني من أشعار يكتشف فجأة أن العالم الذي يتحرك فيه مشحو ن بالنفاق و الغدر و أن ما يراه و يتحسسه و يتلمسه بمشاعره النبيلة لا يتجاوب مع قناعاته بسبب ما ترتديه الحياة من تزييف و مغالطات فيعود الى معاتبة نفسه و تعذيبها و مثل هذه الظاهرة اذا انتابت المبدع ليست مشينة بل هي ظاهرة صحية و هو ما حدث مع لشاعر ـ رامبو ـ حينما اهتدى الى أمر في غاية الخطورة و هو ما عبر عنه بقوله ـ ما اسمه عمل: أن كل شيء للهدم و أن علي أن أمحو كل شيء من رأسي … أما ما ينبغي أن يعمله ـ يجيب عليه بقوله أيضا ـ بلوغ المجهول بإ يقاع الاختلال في جميع الحواس ـ و لعل ما كتبه لصديقه ـ ايزامبار معلقا على قصيد ته ـ القلب المعذب ـ بقوله ـ إن الشاعر في رأيه هو سارق نار يضيء يها ظلمات التي تغشي علائق الاشياء فيما بينها ـ لقد أراد رامبو أن يكون عرافا و أن يمارس الشعر في سحره و لهذا لم يتردد في أن يقول لقد أصبحت أوبرا أسطورية و الأوبرا الأسطورية كما يعرفها بيار جان جوف ـ عمل الفن ممزوجا في ينبوع اللا وعي و ملاعبا هاويته ـ
أن ما سلف ذكره من ارهاصات بامكان لأي متذوق لعذب الكلام الوقوف عليه في القصائد المعنونة ب ـ زهور ـ و ـ قيم ـ و ـ دمعة ـ و ـ الغربان ـ و ـ الزوج الجهنمي ـ و لاسيما قصيدة ـ الفجر ـ هذه القصيدة النثرية التي يتطاير منها الشرر و التي تعكس اشعاعات مراوية غنية و لإكتشاف هذا السحر نختار المقطع التالي ـ عانقت فجر الصيف و لم يكن ثمة في جبين القصور حركة ولا نسبة … كان الماء ميتا و لم تكن معسكرات الظلال تغادر درب الغابة … لقد مشيت فأيقظت الأنفاس النظرة الحرى و تلفتت الأحجار تنظر … و نهضت الأجنحة من غير اصطفاق .. و ضحكت للشلال يتناثر شعره عبر شجر الصنوبر و على رؤوس الاشجار الفضية رأيت الآلهة ـ
و في تعبيره عما لا يعبر عنه هو اكتشافاته الجديدة و ايمانه العميق أن للكلمة كيمياء خاصة و في ذلك يقول في قصيدة الهذيان ـ le déliresـ لقد اخترعت للأحرف الصوتية ـvoyelle ـ الوانا فال ـ Aـ سوداء و الـ ـ Eـ بيضاء و الـ ـ Oـ زرقاء و الـ ـ Uـ خضراء . لقد نظمت شكل كل حرف و حركته و أخذت أخترع بالإ يقاعات الغريزية بلغة شعرية تتقبلها جميع الحواس عاجلا أم أجلا . لقد كتبت الصمت و الليل و سجلت ما لا يعبر عنه و ركزت ـ و يضيف في القصيدة نفسها ـ الهلسنة ـ HALLUCINATION ـ فكنت أرى مسجدا ـ MOSQUéـ بدلا من مصنع و مدرسة للطبول صنعتها الملائكة و مركبات على دروب السماء و حالة في قاع يحيرة و جنا و عفاريت ثم كنت أشرح سفسطا تي السحرية بهلسنة الكلمات ـ
و الحق أنه عند فراغي من قراءتي الأولى ـ لديوان ـ أرتير رامبو ـ و سيرته الذاتية تكون لدي انطباعا مفاده أن واقع الابداع ينحسر في الجدال القائم منذ أكثر من 500 سنة قبل الميلاد حول الشعر من ناحية الضرورة و الخيار و قد تبين ذلك في استشهاد ـ أفلاطون ـ في جمهوريته حيث بعد أن طردهم ـ أي الشعراء ـ في بداية تصنيفه أعادهم من باب التغني بالفضائل و أصحابها و تما شيا مع فصل الرسول صلى الله عليه و سلم في الاشادة بالشعر و الشعراء من خلال انزاله ل ـ حسان بن ثابت ـ أعلى المراتب بعد التأكد من صحة موضوعية استنتاج عبد الله بن رواحة ـ الشعر شيء يختلج في صدري فينطقه لساني ـ و من العصر القديم الى العصر الحديث البارودي الذي عبر عن مفهومه للشعر بطريقة مشابهة بقوله ـ الشعر لعمة خيالية يتألق و ميضها في سماواة الفكر فتبعث أشعتها الى صحيفة القلب فيفيض بلآلئها نورا يتصل خيطه بأسلة اللسان فينفث بألوان من الحكمة و انتهيت الى و صف رامبو نفسه كونه سارق نار لكن الذي لم أضمه هو قول رامبو عندما سئل عن سبب تخليه عن الشعر و انصرافه ـ لقد ذهب ذلك الماضي و لم أعد افكر فيه ؟ ـ
لكن في قراءتي الثانية و تبعا لتمعني في أوراق رامبو المدفونة وجدت الرجل لم يشذ عن القاعدة و على ما سلف ذكره من حجج و براهين و استنتاجات و انما الذي كان غائبا في قراءتي الأولى هو غياب عنصر الربط بين سيرته الذاتية و الابداعية و ما رافقها من أحداث في عصره لذلك فان سر عبقريته في ركله للشعر أعمق … لأنه يعتبر الابداع رسالة انسانية لا و طن لها و الشعر و سيلة للتمعن بالفضائل على حد قول ـ افلاطون
عدل سابقا من قبل ليلى ناسيمي في الجمعة 27 مارس - 6:46 عدل 2 مرات