لو أستطيع أن أخفف وزني حتى أغدو مثل ريشة تحلق في جميع الاتجاهات، وتطير عبر جميع الأنحاء، أحس أن دواخلي تشققت و تبعثرت إلى قطع صغيرة و لا أملك فرصة تجميعــــــها، هي ذاتي المتكسرة، أحس بتهشمها كل دقيقة تمر دون أن تكون لدي أي طاقة لإخضاعها شأن ورقاتي، و شوشاتي، كلماتي..
و هو يبحث بين أسطواناته عن السلوى، اصطدمت أنامله في بحثها المتكاسل بوجه "شارل أزنفور" charles Aznavour يتربع كرسيا كلاسيكيا، سحب الأسطوانة بلهفة، حشرها في فم جهاز "ال دي في دي، انبعثت موسيقى عذبة بين جوانب غرفته المتناثرة، منذ يومين لم يرتب عناصرها، الأسطوانات مبعثرة في تداخل عنيد مع بعض القصص و الأوراق، ومدونة القانون الجنائي تتسكع قربها قصائد مؤقتـة نهاياتــــــها، وتلك النبتة الشوكية لن تغفر له تهاونه في إروائها، لا تصلها منه سوى الكرات الورقية التي يصفعها بها من بعيد حالما يخطيء في كتابة كلمة تسرب إليها الخطأ عمدا، أو لم تكن نيته مبيتة في كتابتها، أو أنها قريبة من الحلم بعيدة عن الواقع..
أغنية 1* Non je n’ai rien oublié تنبعث هادئة بصوت "أزنفور" .. والخواطر تعصف برأسه المليء بالتعب.. و أنتِ لا أعرف لماذا تحالفت مع الأشياء لغزوي؟ أتذكرين تلك اللحظات حين كان الحوار يأخذنا لساعات؟ وكنا نغسل وجه المدينة لساعات متأخرة من الليل، و نحن نتهامس تحت المطر المتهاطل في الشوارع الخالية،و أضواء العلامات الإشهارية تترصدنا؟
لا يعرف كيف سقطت صورتها من خياله على صفحاته التي كانت تمر حدقتاه عليهــــــا، أزنفور يغني "Toi et Moi"*2 و صوت القيثارة يؤنس الصمت، يحس بأعصابه ترتخي رويدا..
لم يكن يود أن تضعه في هذا الموقف الحرج، لم يكن يرغب أن تضع نفسها موضع اختيار أبــدا، أن يختار بين امرأتين، بين عاطفة و أخرى مغايرة تماما..
*L’amour c’est comme un jour3 صدحت كلمات الأغنية في هواء غرفته، و تسللت بهدوء بفرنسية عذبة واللحظات الجميلة تظهر وتغيب أمام عينيه مثل حلم الخامسة صباحا.
الحر استنزف جسده كما تفعل هذه الأفكار و الذكريات، عدل جِلسته، وأزال عن جسده ما كان يرتديه، فتح الشرفة، و ترك صدره عرضة للنسمات الباردة..
لم يحس إلا و ابتسامته تتسع في خضم هواجسه، لم يعرف ألأنه صدم السلة بقدمه فسكب أحشاءها ؟ أم لأن نبتته الشوكية و خزته دون قصد منه أو منها؟ المهم أن هذا كله كان حافزا لإطفاء نور الغرفة الذي أحس أنه كان يزيد من حرارة الجو.
لقد أدرك سبب ابتسامته، Il faut savoir *4 تتسلل عبر تجاويفه، و هو لا يزال يضمـد موضع الوخز على ذراعه، بينما ابتسامة عذبة تملأ الفراغ أمام عينيـه و تتضـح وسـط ظلام الغـرفة، و تلك الإنارة الخافتة آتية من خارج الشرفة..
كان صدفة جميلـة لقـاؤه بها فـي الحافلـة، بقوامـها الرشيـق و ملامحـها العـذبة الهادئة، قطع صمتها و هو يحدثها عن الكراسي الضيقة، و لم يحس بمرور الوقت إلا و هو يدس رقم هاتفه بين أناملها الدقيقة، و يتوق شوقا لرقم هاتفها الذي خطته بحركة أنيقـــة و بحروف فرنسية جميلة قربه كتبت اسم " سلوى"
" لم أكن أعرف أن الأشياء الجميلة يكون عمرها قصيرا جدا مثل الجمرة التي تحمر حرارة ثم تخمد بسرعة لحد الرماد، ولا يمكن أن تسير الأشياء إلا وفق منظومتها المعدة لها.."
حدث نفسه و أردف " هكذا هي أشيائي أيضا ليتها تعرف أن الإنسان الذي يحدثها بسخريــة و تهكم عن الحياة، يحتاج من يتهجى حروفه البسيطة، إن الخيالات الجميلة لم تعد تدفيء أو صالي كما كانت تفعل عندما كنت صغيرا، البرودة تنتشر في عروقي و أوراقي كما هي ليالي و أمسياتي.
هذا البرد الذي يتسرب إلى جنباتي رغم حرارة الجو، أحس أنه رعب ينقض علي رويـــــــدا، أهرب منه نهارا و أنا مأخوذ بالمشاغل، و لكن يقضني عندما يبدأ الليل في بسط سلهامه.. "
موسيقى أزنفور مازالت تتسلل هادئة رخوة.. و أغنيـــة *La bohème 5 تتراقص بأذنــــــه، جفناه يتثاقلان، أطرافه تزداد برودة كما هي بــــــرودة فراشـــه و فراغه الذي أصبح لا يجد عنه بديلا..
أغمض عينيه و ترك للموسيقى فرصة إدفائه، فلن تهزمه هذه الخواطر القاتمة، لملم مجموع أوراقه( ذكرياته القديمة)، أخرج عود ثقاب، أضرم نارا خفيفة في تلك القصائد، أحس بدفء يسري في أنامله، أسلم نفسه مغمض الجفنين لنشوة الحرائق و موسيقى أزنفور..
مصطفى لهروب
*
1 ـ لا.. لم أنس شيئا https://www.youtube.com/watch?v=uZeoridGwuQ&feature=related
2 ـ أنت وأنا https://www.youtube.com/watch?v=HyDZgu5ZtNo
3 ـ الحب يشبه النهار
https://www.youtube.com/watch?v=APyncDBL-_0&feature=related
4 ـ يجب أن تعلم https://www.youtube.com/watch?v=vLbxek5IbB0
5 ـ البهيمية ttp://www.youtube.com/watch?v=43QIzohgViM&NR=1&feature=fvwp