كفُّ أمي
في ليالي الشتاء الهانئة الدافئة:
كان يطيب لنا السمر ونحن متحلقون حول أمنا مثل كواكب تطوف حول الشمس
و كان يزيدها الشتاء جمالا وجلالا وإشراقا، بينما هي جالسة ملتحفة بغطاء يبث الدفء ، وشالٍ ما يزال مندى بقطرات من أثر الوضوء.
ونحن حولها كالرعايا حول مليكة محبوبة ، وكانت توزع علينا فصوص البرتقالة الذهبية واحدة إثر الأخرى بعد أن تديرها في يدها وتقشرها بإتقانٍ حتى تخرج القشرة دائرة واحدة ملتفة ، فنتسابق لنيل القشرة نلهو بها ، وفصوص البرتقال نتناولها متأملين في حبيبات كل فصٍّ من فصوصها منبهرين بجمال منظرها وروعة اتساقها فيما بينها هذا الاتساق العجيب الجميل الذي تبلوره دهشة الطفولة وفرحة الاجتماع والحوار قبل أن تذوب في أفواهنا الصغيرة.
لاهجين بحمد الله على النعمة ، وبتسبيحه سبحانه على الجمال والحكمة، وكانت نظرات أمي تلفنا بنظرات الحب والرحمة.
مرددين مع صوت أمي:
"الحمد لله"
"سبحان الله"!
هكذا كنا حول أمي وهكذا كان برتقال الشتاءِ زاهيا ناضرا ، وهكذا كانت أمي على السرير ونحن حولها وتحت قدميها كدوار الشمس ، نولي قلوبنا ووجوهنا شطرها، وهي في عليائها، على عرشٍ صنعناه بقلوبنا المحبة وعيوننا الرانية ، وهكذا كانت كف أمي الحانية .
.......
ومر الشتاء يتلوه شتاء...
وأصبحنا نتطلع إلى أمي في السماء مرددين سورة الفاتحة التي علمتنا إياها، داعين لها بالخير الذي طالما دعتنا إليها بأقوالها وأفعالها وصوتها وسيرتها ، والرحمة التي كانت توزعها علينا مع كل ما كانت تفيض به علينا من نعمٍ وفيرة ، تتجلى لي من خلالها أينما كنتُ ، وحيثما توجهتُ فصوصُ البرتقال المذهبّة المحببة !
.....
وها أنا كلما رأيت البرتقال هنا وهناك يهتف صوتٌ من مكان أثير في أعماقي مناجيا:
هذا هو البرتقال ولكن أين كفُّ أمي؟!