ليلى ناسيمي كتب:
كـازاويـات لـيلى
ولمـا ضبطتنــي هذه المدينة
لآهلـة متلبسة بجـرم البحلقــة,
وأنـا بعـد صبيـة,أحبـو إليها حـافية, عـارية
من شـؤون الـزيـف.. والـخوف
سحبتنـي,,من أرنبة أنفـي
وطـافت بـي العـالم
أرادت أن تتـوجني مـلكة المـشرديـن
فـآوتـني مخـادعها المسـتورة
والمـفضوحـة
وفـتحت في وجـهي أبـوابها المنسـية
وعلمتـني كيف أفـك رمـوز بؤسـائها
كيف أحـل أحـلام بسطـائها
فـأصبحت
جـزءا من بـؤسها
جـزءا من جنونها
جزءا من سخطها
من كفرها
وعرفـت أن لليـل أعرافـا
وأجراسـا تقـرع
وطبـولا تــدق
وحكايات تروى
ولما استحلفتها بأطفالها ونسائها
- ينشرون الحلم على أسلاكها المكهربة-
أن تريـحني
من همها..من لهوها..من طيشها
شــدتني من يـدي
وجابت بي الحواري وحلقات الراوي
وذكـرتـني
أني في الأرض.. قـضــيـة
كـازابـلانكا حبـيبتـي
هـذي صـلاتي الأولـى والأخـيرة
على روح الشـعر فـيك
كيف اسـتسلمت للطــاعـون ينخر عظامك
كيف أرخـيت أهداب الجفـون
واسـتقبلت فـلول الهـوس
صاروا يدخلونك أفـواجـا... أفـواجـا..؟؟
يفـجرون فـيك... شجـونهم.. فجـورهم
وتتكحلين.. تتزينـين.. ترقصيـن
أي كــازا
حبـيبتي
عين الذئاب تلتهم
صبايـاك... سبايـاك... بقايـاك
وأنت,لا تباليـن
وتحاوريننـي.. وتكاشفيننـي
وتمديـن خيطك الرفيـع
يشدني إلى أرضـك وناسـك
فتنبسـط أمــامي يـد الزمــن
أقـرأ خطـوطها,أتكهـن بغيـبهـا
وكم أخشـى عليك
من دناصــير الـشرق والغـرب
تنـفث سمـومها في كبد الحي
ولسـت أعرف
مـا أصاب الحـي وأهـل الحي
تسـاق مليـحاته في قلب اللـيل
ودائع داخل أبـناك الشـهوة
وعلى أرصـفة
اللـذة,تـقامر..تـتاجر
تقـايض بالربيـع في عـيونها
تطـارح شـياطين العـالم كله غرامهـا
وتغـني للحب
مـــــا أقصر... مســافات الفـــرح
بين الـنافـــورتيــن
الدهشة استوطنتني !!
واستعذبي الحب, والعنـاد, والـرفض فـيك
أين أمضـي؟؟
أين امضـي؟؟
أين امضـي؟؟
أنا الموقعة أسفـلـه
أشـهدكم الـيوم
أنـي لا زلت أجلس القرفصـاء
على فـوهــة مدفـع
فـــوق ســـور المديـنة القديـمة
ألقـي مرثـيتـي عن مدينتـي
وأتلقـى,التعـازي من البحـر
الدار البيضاء1986
==========
عبد الرحيم هري بتاريخ الأحد 1 أبريل 2007
استهلال
هذه القراءة عمرها الآن 20سنة،ففي سنة 1987 نشرت الشاعرة ليلى ناسيمي نصها بإحدى الجرائد،فقمتُ بوضع هذا التحليل،لم أكن أعرف الكاتبة شخصيا،وحدث أن ضاع مني النص الأصلي فبقيتُ أبحثُ عن صاحبته لمدة 20 سنة حتى التقيتها في أواخر شهر مارس 2007 في سهرة تكريم الشاعر محمد اللغافي،سألتها هل لا زالت تذكر نص" بكائية على مدخل المدينة"،أجابتني نعم،قلتُ لها هذه قراءة لذاك النص ،قالت باستغراب:النص كُتب قبل الآن بعشرين سنة،قلتُ لها والقراءة أيضا عمرها 20سنة.
ما أصغر العالم.
واليوم لما رأيت نفس النص يُنشر على منتديات واتا،ارتأيتُ أن أطلع القاريء على هذه القصة التي تحمل بين طياتها رحلة صبر واصرار، وأنشر نفس التحليل الذي كتبته 20 سنة خلت .
وبالمناسبة فالنص الأصلي عنوانه "بكائية على مدخل المدينة".
كازويات ليلى أو بكائية على مدخل المدينة
"الشاعر ابن بيئته"كلام قالته العرب،المراد به أن الشاعر/الكاتب عليه أن ينطلق من محيطه،من حياته المُعاشة يبدأ السؤال،من هنا تبدأ الشهادة،أن نستشهد فيما نكتب معناه أن نتيه داخل الزمن العمودي، أن نُواجه المجهول ونخلق وحدة التجاوز.
فمن أين انطلقت"الباكية على مدخل المدينة"أو كازويات ليلى ناسيمي؟وإلى أين أفضى بها هذا الإنطلاق؟.
تُطالعنا-ونحن نُعيدُ كتابة النص الخاطرة، سبع مقاطع مرتبطة شكلا ومضمونا:
1-تبعية:استفاقت على جلجلة أصوات المدينة/مدينتها، وهي عارية إلا من استحثاث همم الشباب،وقفت تنشر موزها لينضج،لكن المدينة تضبطها وتتهمها بالتجسس.ولما كانت الباكية لا زالت طفلة غريرة سحبتها المدينة ، وطافت بها العالم كي لا تعجَّ بالبكاء.
نقطة البدء تتأسس من المدينة،إنها التبعية، إنها الشهادة.
2-نبوءة:وتصبح الطفلة جزءاً من حياة المدينة، ولم تعد الطفلة التي كانتها غريرة،دخلت المجزرة حيثُ يذبح البشر لتتوج نفسها "نبياً":وعرفتُ أن لليل أعرافاً...وحكايات تروى."وتدخل الحي،تصعد إلى الحي لتوزع ثمار تلك الشجرة التي سقتها بدمها وتستريح،فما أمهلتها المدينة،بل لفَّتْ حولها حبال الإنتماء لتصبح قضية،هنا تبدأ مرحلة الإشراقات.
3-إشراقات:ماذا أصاب المدينة؟
ذاك هو الطاعون/الهوس.
وتنتقل "الباكية"لتُشخص الداء،فالفيروس جاء من بعيد:"صاروا يدخلون أفواجاً..أفواجاً..يُفجرون فيك شجونهم..فجورهم".4-تعرية الواقع المر/الخطيئة: وتسقط المدينة في الخطيئة:"عين الذئاب تلتهم صباياك ..وأنت لا تُبالين.."، إنها تعرية الواقع المر.
5-الداء/المأساة:وتبقى الكاتبة مع هذا كله مُتشيثةبأرضها/عشيرتها،لِتُصور لنا رأس الداء:"كم أخشى عليكِ من ديناصورات الشرق والغرب، تنفث سمومها في كبد الحي حيثُ:"..تُساقُ مليحاتهُ..داخل أبناك الشهوة..وتُطارح شياطين العالم كله غرامها."6-الغربة:الخطيئة التي اقترفتها المدينة تُؤسسُ لدى الكاتبة(صدأ العيش)،فهي تشعر-أمام هذا الطاعون-بالغربة والإنفصال عن الآخرين، الرفض بكل مُقوماته،وتتيه،إنها الغربة بامتياز،الغربة داخل الوطن.
7-رفض وخضوع:ولما أعيى الكاتبة المسير ،جلست على فوهة مدفع فوق سور المدينة القديمة-المُقابل للميناء-،وأُعَجَّتْ بالبكاء، وبالتالي أعلنت موتها،فمن يُشَيِّعْ جنازتها والقوم /عشيرتها،سكارى على أرصفة اللذة؟.
تلك إذن سبع مقاطع صُفَّتْ فكونتْ لنا"بكائية على مدخل المدينة"،وبتصفيفها ماتت الكاتبة،ليولد القاريء التائهُ المُتسائلُ كي يُبقي فضاء القراءة والكتابة،ويتمخض ليلد تأسيساً للبكائية.
قال القاريءُ:كازا بلانكا حاملة لواء السبق في التصدي ،في الرفض،في الثبات،في الويسكي وفي الرذيلة.كازا تُعلمكَ كيف تُصبحُ رجلا في أربعين يوماً/وتُعلمك كيف تصيرُوسيطا للذعارة في عشرين ساعة.كازا غولٌ يمنحك خبزاً وزيتاً،ويلتهمك إنْ جاع.
مدينتي،أحبك حتى الجنون فقد تعلمتُ فيك في أربعين يوماً، وأخاف عليك من الدمار،فقد حلَّ فيك وباءُ بيروت،وكأني بعين الشق تتحد وساحة السراغنة لِمُهاجمة"الكورنيش"،ساعتئذ لن أجلس أمام فوهة المدافع فوق سور المدينة القديمة أرثي نفسي،ما كنتُ جباناً،وأنا رضيعٌ كانت أمي تمزج لي حليبها بالبارود،وسلمني أبي بندقيته الموروثة عن جده،لأُقَوِّمَ بها اعوجاج كازابلانكا.
أيتها المهمومة بِحال الدارالبيضاء،انشطري مُتفجراتٍ،أو كوني شجرة زقومٍ امنحي ثمارك لمن أثقل كاهل الدار البيضاء،أنا لا اُريدك باكية،كما لا تُريدك مدينتي تعشقين الإنتحار،لكِ القلم فضاجعي الحرف،،لكِ السيفُ،لك اللسان،لك كازا عينها،نظفي الشوارع والعمارات من الطفيليات، لك المكنسة وَلِي الماء والصابون،وليأتِ الموتُ بعدها.
وبهذا تدخلين الزمن العمودي، وتُواجهين الواقع،لا أريدك هاربة منه،فإذا كان المجتمع يسحق الشاعر/الكاتب،فعلى الكاتب أيضاً أن يسحق هذا المجتمع برغبته الظفر بالأشياء،بجموحه وحركيته،بتحرير العالم ولو ظرفياً من سُباته.
أن نُواجه، معناه أن ننفتح-ولو على الفرح واللذة-،ونطمح طموحاً لا يعرفُ غاية ينتهي عندها،ونُكسر طوق الإكتفاء والقناعة،وهذه مُهمة الكتابة،فهي تفتح لنا دروبا في العالم الخفي وتتيحُ لنا التخلص من العوائق،إنه السفر على هوى التخيل والتوهم.
فالبكائية جاءت لتُؤسسَ حضوراً تاريخياً تشهده مدينة الدار البيضاء،تسلست مقاطعها تسلسلا مقبولا يُفضي بنا إلى الحكم على الكاتبة بأنها ابنة بيئتها،فهي العارفة بحال الدار البيضاء،واعية بالخطأ التاريخي الذي تعرفهُ هذه المدينة،مشخصة للداء الذي ينخر قواها،متصورة-انطلاقا من الحاضر-لما ستؤول إليه المدينة إنْ هي لم تُطهر كيانها.
غير أن الكاتبة/الشاعرة انهكتها في الأخير معالجة المجتمع،إصلاح ما أفسده ويُفسده الغزو الفجوري، فاستسلمت،وبالتالي جاءت بُكائيتها يعوزها الفعلl action ،حيثُ أُخِذَت الكاتبة بالعودة إلى الأصل/الموت بالمجان،في الوقت الذي كان عليها أن تأخذ بمبدإ التجاوز والمجابهة ،وهي رسالة مفروضة على كل كاتب وشاعر،فما دامت أدوات التجاوز هنا هي الحرف والقلم،أدواتٌ بالمجان،فَلنُجَرِّبْها لنؤسس عالماً فاضلا ولو على بياض الورقة ،في انتظار إخراجه إلى الواقع لنبدأ عملية البناء الفعلي وتحرير الدات من أوهامها وأصنامها.
-هري عبد الرحيم-أبريل 1987
جريدة"الإتحاد الإشتراكي عدد1201 صفحة "على الطريق".
ابريل2007"صدقت الكاتبة فكل ما قيل عشرين سنة تحقق،وحل بمدينة الدار البيضاء االدمار الأخلاقي.
==========
مصطفى عراقي بتاريخ السبت 6 يناير 2007
==========
"وتمديـن خيطك الرفيـع
يشدني إلى أرضـك وناسـك
فتنبسـط أمــامي يـد الزمــن
أقـرأ خطـوطها,أتكهـن بغيـبهـا"
أديبتنا المدهشة ليلى
هو ذاك الخط الرفيع المشدود كالوتر يكمن فيه سر الرباط الوشيج الذي نسجته هنا مع المدينة القاسية الطاردة ، والحانية الآوية في آن
منذ مارست دور الرقيب على صبيـة, تحبـو إليها بحبٍّ ، فلا تقدر هذا الحب الطفولي النضير
فهل أرادت أن تريح ضميرها وتفر عن قسوتها حين أرادت أن تتـوجها مـلكة المـشرديـن
فـآوتـها بما تملك من مخـادع، وكشفت لها ما تحجبُ من أسرار وما تكتم من أحلام؟
حتى يتم التوحد بينهما ، بؤسا وجنونا وسخطا؟!
ولأن الليل ليل المدينة هو مخبأ الأسرار ومأوى الحلام ، ومنبع الحكايات والأساطير كان لا بد من مصاحبته وجها لوجه
وهاهي الصبية تشعر بالقرب ، كما يوحي
استخدام أداة نداء القريب: أىْ
لدلالة على مدى الشعور بقربها إلى قلبك
والترخيم الدال على التودد والتحبب:
"أي كــازا
حبـيبتي"
الذي يناسب الخطاب الحميم بين الأصدقاء
كما هو معروف في علم النحو الذي ما يزال بعض مثقفينا يظنه علما جامدا جافا وهو زاخر بمثل هذه الطاقات الشعورية البديعة ، تنتظر من يوظفها بإبداع
لتبدأ مناجاة مفعمة بالإشفاق ، والحيرة ، والألم ، والحب ممتزجا بالرفض والتمرد، والغناء متشحا بلون العزاء
أما أسلوب التعجب المسربل بسربال الانفعال ، فيطالعنا ممتزجا بالدهشة
مـــــا أقصر... مســافات الفـــرح
بين الـنافـــورتيــن
الدهشة استوطنتني !!
وينهض أسلوب الاستفهام بتجسيد مشاعر الحيرة والإحساس بالتيه:
أين أمضـي؟؟
أين امضـي؟؟
أين امضـي؟؟
ويحين ور أسلوب الاختصاص المعروف في مواقع الإقرار ولكن بتعديل موحٍ
فإذا كان المقر يقول: انا الموقع أعلاه فإن كاتبتنا تقدم لنا نفسها : الموقعة أسفله ، بعد أن نطالع الإقرار ونتأمل الشهادة
"أنا الموقعة أسفـلـه
أشـهدكم الـيوم
أنـي لا زلت أجلس القرفصـاء
على فـوهــة مدفـع
فـــوق ســـور المديـنة القديـمة
ألقـي مرثـيتـي عن مدينتـي
وأتلقـى,التعـازي من البحـر".
فلماذا البحر؟
ألأن البحر مازال محتفظا بماء الحياة ضد الموت
وبقلب النقاء ضد الزيف
وبروح الشعر ضد الخواء؟
أم لأن البحر قادر على منحها مما لديه حتى تعود ؟
ليلى
أيتها الشاهدة الصادقة
والمُحبة المشفقة
والأديبة المفتنَّة
شكرا لكل هذا الإبداع يفجر طاقات اللغة باقتدر
والجمال برغم الأسى - كما قال أخي الفاضل إبراهيم الشريف - أو ربما بسببه.
سلمك الله
وسلّم مدينتك الغالية